لا تتوهم أن البوصلة التي تملكها ستبقى على الدوام تشير بثبات إلى الشمال. الحياة ليست بتلك السلاسة التي نتخيلها حين نضبط اتجاهاتنا أول مرة. فالسفن التي تمخر عباب البحر تتعرض للأمواج العاتية، للعواصف، للأعاصير، ولبحر يخفي في جوفه ما لا يمكن التنبؤ به. وفي كل مرة تهتز فيها السفينة، تهتز معها البوصلة، تتأرجح، تسقط، وربما تختفي من مكانها دون أن نشعر.
هنا، يتوجب علينا أن ندرك أمرًا مهمًا: أن البوصلة، وإن كانت تشير دائمًا نحو الشمال المغناطيسي، إلا أنها ليست محصّنة من الاضطراب. لا يكفي أن نكون قد ضبطناها بالأمس أو قبل أشهر، فكل يوم يأتي بتغيراته، بتقلباته، وباختباراته. لذلك، علينا أن نراجع مكان البوصلة باستمرار، لنتأكد: هل ما زالت معنا؟ هل هي في موضعها الصحيح؟ هل تشير حقًا إلى الاتجاه الذي نريده؟
في زحمة الأيام، في انشغالنا بلقاء الإفطار الذي نترقبه، أو في جلسة مع الأصدقاء والأهل، أو في انغماسنا في العمل والمنصات والأدوار القيادية التي نتقمصها… قد نغفل عن أمر بسيط لكنه جوهري: أن نراقب البوصلة.
اجعل من مراقبة البوصلة عادة. يومية إن استطعت، وإن لم تستطع، فاجعلها أسبوعية أو شهرية. المهم أن لا تهملها. فهي لن تظل مضبوطة تلقائيًا كما تتمنى، بل تحتاج إلى مراجعة، إلى إعادة ضبط، إلى لحظة صمت وتأمل تقرر فيها: “هل ما زلت على الطريق؟ أم انحرفت دون أن أشعر؟”
الأمر الأهم من ذلك أن ندرك أن الرحلة ذاتها تتغير. الوجهة قد لا تبقى كما كانت، والطريق الذي يقودك اليوم نحو هدفٍ ما، قد لا يكون ذاته الطريق نحو هدفك القادم. أحيانًا نحتاج أن نعود إلى الوراء قليلاً، أن نغير الاتجاه نحو الجنوب بدل الشمال، ربما لتعبئة السفينة بالوقود، أو للتخلص من حمولة زائدة أثقلت المسار.
فالحياة، في جوهرها، ليست رحلة واحدة، بل مجموعة رحلات. وكل رحلة لها وجهتها، ووقتها، وتجهيزاتها، وبوصلتها الخاصة.
لا تنسَ:
“ليس المهم أن تبقى البوصلة على الشمال دائمًا، بل أن تظل يدك على البوصلة.”
